البيان الذي لم تعد الحياة بعده كما كانت قبله، وربما لن تعود في المستقبل القريب. سيظل مارس 2020 هو الحد الفاصل لملايين البشر، والتاريخ الذي يرجعون إليه لتقييم الأشياء والأملاك والأرواح.
عام ونصف على إعلان كورونا جائحة؛ ملايين من الإصابات لم تتوقف حتى اليوم وشهور طويلة من الإغلاقات ومدن بدت خالية وكأنها من مشاهد أفلام نهاية العالم وأخرى لم تتوقف فيها الحياة وكذلك لم يتوقف عداد الموت. أنظمة طبية انهارت بالكامل تحت وطأة ارتفاع الإصابات وأنظمة اقتصادية لم تستطع الصمود وملايين من العمالة اليومية فقدوا مصادر كسب العيش وعرف أطفال العالم كله ماذا يعني التعليم المنزلي واكتسبت كل الأجيال مهارة إتمام العمل عن طريق الإنترنت واجتماعات الفيديو والتنفس عبر ثلاث طبقات من الأقنعة الطبية وغسيل الأيدي لعشرين ثانية في كل مرة تلمس فيها أي شيء ثم رشها بالكحول زيادة في الاطمئنان وجرّب العالم كله بعض من شعور الحبس الجبري، في دول لم تسمح لا بمغادرة حدودها ولا حتى بالدخول عبرها جوًا ولا بحرًا ولا جوًا.
الكثير من الأنماط التي طرأت على الحياة والموضوع الشائك الذي لم يتوقف الكلام عنه ولو للحظة؛ اللقاح بين الجدوي والضرورية والمؤامرة، وسمعنا الكثير عن فرضيات التحكم بالبشر والشرائح التي ستدخل عبر جلدك ليكون جسدك ملفًا مفتوحًا لأجهزة استخباراتية وانتشرت الآلاف من تحديات تيك توك وسمع الملايين عن التطبيق واضطرت الأسر ربما لأول مرة منذ سنوات أن تأكل مجتمعة لأنها اضطرت ولأول مرة ربما منذ سنوات أن تجتمع.
ولكن هذه الصورة من ما بعد الجائحة ليست بالكاملة، رغم أنها الأشهر والأقرب ذهنيًا لمرتادي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. الصورة الكلية مليئة بالخسارة والألم الفادح الذي لم ينته بعد. 4.55 مليون إنسان قتلهم الوباء مع معاناة الدول الأفقر في المواكبة وبالطبع استحواذ الأغنى على الجزء الأكبر من اللقاحات في مشهد غير مُستغرب لعدم التكافؤ الذي يسود العالم. العالم الذي يعيش فيه أكثر من 50 مليون إنسان في مخيمات للنزوح، أي داخل حدود أوطانهم، ولكنهم لم يعودوا قادرين على العيش في مدنهم وقراهم لأسباب شتى تتربع على مقدمتها الحروب، هؤلاء الملايين يعيشون بدون أي إمكانات لجعل الحياة محتملة فضلًا أن تكون أيسر. هؤلاء الأكثر عرضة للإصابة بكل الأمراض ناهيك عن جائحة تفتك بالملايين وهم محصنون داخل أعتى الأنظمة الاقتصادية والصحية. هؤلاء لم يُدرجوا مع المصابين لاستحالة إجراء الفحص ولم يدرجوا مع الوفيات لأن العادي أن يموت الفقراء والنازحين وضحايا الحروب بدون أسباب معقدة، يكفي أنهم يعيشون على الأغلب على المياه الملوثة وإن وجدت، وفتات الطعام وإن قل.
عام ونصف ولم يعرف العالم بعد حجم خسارته البشرية ولا الاقتصادية، ولكن كل بيت يعرف من فقد وكيف فقده، حتى ولو لم يعرف كيف ستسير الحياة بدون عوائلها. بين 1 مارس 2020 و 30 أبريل 2021، فقد 1,134,000 طفل تحت الثامنة عشر أحد والديه أو واحد من الأجداد من مقدمين الرعاية بشكل مباشر. وقد تجاوزت أعداد الأيتام أعداد الوفيات بين الأعمار 15-50 عام، كما زادت نسبة الأطفال الذين فقدوا آبائهم من 2 إلى 5 أضعاف من فقدوا أمهاتهم.
من بين كل حالتين وفاة جرّاء الفيروس، يفقد طفل واحد من والديه أو أجداده، وينبغي عليه حينها أن يدبر أمره إما وحيدًا أو بمساعدة شخص لا يملك دخلًا من الأساس. تعاني الأمهات المعيلات من رعاية أطفالهن الأيتام في الأحوال العادية التي وصل تعداد الأيتام فيها إلى 153 يتيمًا حول العالم و5,700 يعانون من ألم اليُتم يوميًا، قبل احتساب الضحايا الخفيين لكورونا. على الأمهات في الدول الفقيرة أو في مخيمات النزوح أو اللجوء، أن تدبر أمر إطعام أطفالها بعدما فقدوا والدهم وبالتالي مصدر رزقهم الوحيد. تضطر بعض الأمهات إلى طبخ أوراق الأشجار وغلي الكمون والأعشاب بديلًا للبن الرضاعة وإلى حرق الملابس القديمة في الشتاء طلبًا للدفء. يخرج الأطفال بداية من سن الخامسة للعمل في جمع وفرز القمامة والأكبر سنًا يمارسون مهنًا شاقة لا تناسب أعمارهم ولا حتى ما يحصلوا عليه من أجر مقابل لها لا يكفي سوى لبعض الخبز.
يتحتم على الأطفال عند فقد العائل أن يتحولوا أنفسهم لعوائل، وهم لا يملكوا أي حرفة ولا مهارة تؤهلهم لذلك. يضطر الملايين لترك المدرسة والخروج إلى الشارع للتعرض لأقسى أنواع الاستغلال وكل أشكال الخطر. كانت أزمة الأيتام طاحنة قبل أن يبتدي هذا الأمر برمته، وكانت المؤسسات الدولية والمحلية والمبادرات تنادي بضرورة التكفل بالأيتام حفاظًا على مستقبلهم وتأمينًا لحياتهم وفي نفس الوقت حماية لهم وللمجتمع من خطر تنقلهم في الشوارع جوعى وحيدين، أو خطر احتياج أمهاتهم إلى الدعم الذي ربما لا تجده سوى بالتعرض لأشكال استغلال طويلة قاسية.
تعمل هيومان أبيل كمؤسسة إغاثية تنموية دولية معنية بتوفير الرعاية للمحتاجين في أقصى الأماكن تهميشًا وأكثرها حاجة على رعاية الأطفال والأيتام كمحور رئيسي من محاور العمل السبعة حول 29 دولة حول العالم لثلاثين عام الآن، حيث بدأ العمل في العام 1991 بعد موجة من الجفاف ضربت السودان وعلى إثرها توجه عدد من الطلاب من مانشيستر بريطانيا للمساعدة، واستمرت جهودهم حتى صارت المبادرة مؤسسة، في مشروع كفالة الأيتام فقط، تكفل 17,845 من الأيتام في تسع دول؛ العراق ولبنان ومقدونيا وباكستان وفلسطين وسيريلانكا والصومال وسوريا/تركيا واليمن، بالإضافة للمشروعات الأخرى المستمرة في دول عدة.
لا يحظى الأطفال الأيتام بحياة سهلة، وفي كل الأحوال، فلابد لهؤلاء الملايين من الأطفال من متكفل بكل واحد منهم. دورنا الآن أن نبحث في محيطنا الأقرب عن كل طفل فقد عائله المباشر، وأن نسعى للمساعدة بكل الأشكال التي نقدر عليها. يمكنك التكفل بمصروفات مدرسته مثلًا، وأن تسأل أحد اصدقائك أن يتكفل بكسوته وأن يقوم قريب لك بتوفير فرصة مناسبة لأمه للعمل ودر الدخل، وهكذا. لن نعدم الطرق إن صدقنا النية. وإن كنت لا تقدر على الوصول لأحد هؤلاء الأطفال بشكل مباشر، يمكنك التواصل معنا أو مع أقرب جمعية خيرية أو مؤسسة إغاثية تعرفها، أو توجه إلى مكان رشحه لك واحد من معارفك ومعروف عنه طيب سمعته وخبرته في هذا العمل، وتبرع لهم بما تقدر عليه وهم سيقومون بالعمل نيابة عنك. المهم، ألا نغفل عن التضامن الإنساني مع هؤلاء الأطفال لأنهم بحاجة إلينا اليوم ونحن بحاجة لهم في المستقبل أفرادًا بالغين نافعين عاملين. لا يشترط أن يكون العمل ضخمًا كبيرًا ولكن المطلوب أن يحدث ولو قليل صغير، فالكلمة والتوعية عمل، وأثر الفراشة لا يُرى ولكنه أبدًا لا يزول.
https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(21)01253-8/fulltext